سورة الصف - تفسير تفسير الرازي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الصف)


        


{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (11)}
اعلم أن قوله تعالى: {هَلْ أَدُلُّكُمْ} في معنى الأمر عند الفراء، يقال: هل أنت ساكت أي اسكت وبيانه: أن هل، بمعنى الاستفهام، ثم يتدرج إلى أن يصير عرضاً وحثاً، والحث كالإغراء، والإغراء أمر، وقوله تعالى: {على تجارة} هي التجارة بين أهل الإيمان وحضرة الله تعالى، كما قال تعالى: {إِنَّ الله اشترى مِنَ المؤمنين أَنفُسَهُمْ وأموالهم بِأَنَّ لَهُمُ الجنة} [التوبة: 111] دل عليه {تُؤْمِنُونَ بالله وَرَسُولِهِ} والتجارة عبارة عن معاوضة الشيء بالشيء، وكما أن التجارة تنجي التاجر من محنة الفقر، ورحمة الصير على ما هو من لوازمه، فكذلك هذه التجارة وهي التصديق بالجنان والإقرار باللسان، كما قيل في تعريف الإيمان فلهذا قال: بلفظ التجارة، وكما أن التجارة في الربح والخسران، فكذلك في هذا، فإن من آمن وعمل صالحاً فله الأجر، والربح الوافر، واليسار المبين، ومن أعرض عن العمل الصالح فله التحسر والخسران المبين، وقوله تعالى: {تُنجِيكُم مّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} قرئ مخففاً ومثقلاً، {وَتُؤْمِنُونَ} استئناف، كأنهم قالوا: كيف نعمل؟ فقال: {تُؤْمِنُونَ بالله وَرَسُولِهِ} وهو خبر في معنى الأمر، ولهذا أجيب بقوله: {يَغْفِرْ لَكُمْ} وقوله تعالى: {وتجاهدون فِي سَبِيلِ الله} والجهاد بعد هذين الوجهين ثلاثة، جهاد فيما بينه وبين نفسه، وهو قهر النفس، ومنعها عن اللذات والشهوات، وجهاد فيما بينه وبين الخلق، وهو أن يدع الطمع منهم، ويشفق عليهم ويرحمهم وجهاد فيما بينه بين الدنيا وهو أن يتخذها زاداً لمعاده فتكون على خمسة أوجه، وقوله تعالى: {ذلكم خَيْرٌ لَّكُمْ} يعني الذي أمرتم به من الإيمان بالله تعالى والجهاد في سبيله خير لكم من أن تتبعوا أهواءكم {إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} أي إن كنتم تنتفعون بما علمتم فهو خير لكم، وفي الآية مباحث:
الأول: لم قال: {تُؤْمِنُونَ} بلفظ الخبر؟ نقول: للإيذان بوجوب الامتثال، عن ابن عباس قالوا: لو نعلم أحب الأعمال إلى الله تعالى لعملنا، فنزلت هذه الآية، فمكثوا ما شاء الله يقولون: يا ليتنا نعلم ما هي؟ فدلهم الله عليها بقوله: {تُؤْمِنُونَ بالله}.
الثاني: ما معنى: {إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} نقول: {إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} أنه خير لكم كان خيراً لكم، وهذه الوجوه للكشاف، وأما الغير فقال: الخوف من نفس العذاب لا من العذاب الأليم، إذ العذاب الأليم هو نفس العذاب مع غيره، والخوف من اللوازم كقوله تعالى: {وَخَافُونِ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ} [آل عمران: 175] ومنها أن الأمر بالإيمان كيف هو بعد قوله: {يا أيها الذين آمنوا} فنقول: يمكن أن يكون المراد من هذه الآية المنافقين، وهم الذين آمنوا في الظاهر، ويمكن أن يكون أهل الكتاب وهم اليهود والنصارى فإنهم آمنوا بالكتب المتقدمة فكأنه قال: يا أيها الذين آمنوا بالكتب المتقدمة آمنوا بالله وبمحمد رسول الله، ويمكن أن يكون أهل الإيمان كقوله: {فَزَادَتْهُمْ إيمانا} [التوبة: 124]، {لِيَزْدَادُواْ إيمانا} [الفتح: 4] وهو الأمر بالثبات كقوله: {يُثَبّتُ الله الذين ءَامَنُواْ} [إبراهيم: 27] وهو الأمر بالتجدد كقوله: {يَأَيُّهَا الذين ءَامَنُواْ ءَامِنُواْ بالله وَرَسُولِهِ} [النساء: 136] وفي قوله صلى الله عليه وسلم: «من جدد وضوءه فكأنما جدد إيمانه»، ومنها: أن رجاء النجاة كيف هو إذا آمن بالله ورسوله، ولم يجاهد في سبيل الله، وقد علق بالمجموع، ومنها أن هذا المجموع وهو الإيمان بالله ورسوله والجهاد بالنفس والمال في سبيل الله خبر في نفس الأمر.


{يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (13)}
اعلم أن قوله تعالى: {غَفَرَ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} جواب قوله: {تُؤْمِنُونَ بالله وَرَسُولِهِ وتجاهدون فِي سَبِيلِ الله} [الصف: 11] لما أنه في معنى الأمر، كما مر فكأنه قال: آمنوا بالله وجاهدوا في سبيل الله يغفر لكم، وقيل جوابه: {ذلكم خَيْرٌ لَّكُمْ} [الصف: 11] وجزم: {يَغْفِرْ لَكُمْ} لما أنه ترجمة: {ذلكم خَيْرٌ لَّكُمْ} ومحله جزم، كقوله تعالى: {لَوْلا أَخَّرْتَنِي إلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن} [المنافقون: 10] لأن محل {فَأَصَّدَّقَ} جزم على قوله: {لَوْلا أَخَّرْتَنِي} وقيل: جزم {يَغْفِرْ لَكُمْ} بهل، لأنه في معنى الأمر، وقوله تعالى: {وَيُدْخِلْكُمْ جنات تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار} إلى آخر الآية، من جملة ما قدم بيانه في التوراة، ولا يبعد أن يقال: إن الله تعالى رغبهم في هذه الآية إلى مفارقة مساكنهم وإنفاق أموالهم والجهاد، وهو قوله: {يَغْفِرْ لَكُمْ} وقوله تعالى: {ذلك الفوز العظيم} يعني ذلك الجزاء الدائم هو الفوز العظيم، وقد مر، وقوله تعالى: {وأخرى تُحِبُّونَهَا} أي تجارة أخرى في العاجل مع ثواب الآجل، قال الفراء: وخصلة أخرى تحبونها في الدنيا مع ثواب الآخرة، وقوله تعالى: {نَصْرٌ مّن الله} هو مفسر للأخرى، لأنه يحسن أن يكون: {نَصْرٌ مّن الله} مفسراً للتجارة إذ النصر لا يكون تجارة لنا بل هو ريح للتجارة، وقوله تعالى: {وَفَتْحٌ قَرِيبٌ} أي عاجل وهو فتح مكة، وقال الحسن: هو فتح فارس والروم، وفي {تُحِبُّونَهَا} شيء من التوبيخ على محبة العاجل، ثم في الآية مباحث:
الأول: قوله تعالى: {وَبَشّرِ المؤمنين} عطف على {تؤمنون} [الصف: 11] لأنه في معنى الأمر، كأنه قيل: آمنوا وجاهدوا يثبكم الله وينصركم، وبشر يا رسول الله المؤمنين بذلك. ويقال أيضاً: بم نصب من قرأ: {نَصْراً مِنَ الله وفتحاً قَرِيبًا}، فيقال: على الاختصاص، أو على تنصرون نصراً، ويفتح لكم فتحاً، أو على يغفر لكم، ويدخلكم ويؤتكم خيراً، ويرى نصراً وفتحاً، هكذا ذكر في الكشاف.


{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ فَآَمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ (14)}
ثم قال تعالى: {يأَيُّهَا الذين ءَامَنُواْ كُونُواْ أَنصَارَ الله كَمَا قَالَ عِيسَى ابن مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيّينَ مَنْ أَنَّصَارِي إِلَى الله قَالَ الحواريون نَحْنُ أنصار الله}.
قوله: {كُونُواْ أَنصَارَ الله} أمر بإدامة النصرة والثبات عليه، أي ودوموا على ما أنتم عليه من النصرة، ويدل عليه قراءة ابن مسعود: كونوا أنتم أنصار الله فأخبر عنهم بذلك، أي أنصار دين الله وقوله: {كَمَا قَالَ عِيسَى ابن مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيّينَ} أي انصروا دين الله مثل نصرة الحواريين لما قال لهم: {مَنْ أَنصَارِي إِلَى الله} قال مقاتل، يعني من يمنعني من الله، وقال عطاء: من ينصر دين الله، ومنهم من قال: أمر الله المؤمنين أن ينصروا محمداً صلى الله عليه وسلم كما نصر الحواريون عيسى عليه السلام، وفيه إشارة إلى أن النصر بالجهاد لا يكون مخصوصاً بهذه الأمة، والحواريون أصفياؤه، وأول من آمن به، وكانوا اثني عشر رجلاً، وحواري الرجل صفيه وخلصاؤه من الحور، وهو البياض الخالص، وقيل: كانوا قصارين يحورون الثياب، أي يبيضونها، وأما الأنصار فعن قتادة: أن الأنصار كلهم من قريش: أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وحمزة، وجعفر، وأبو عبيدة ابن الجراح، وعثمان بن مظعون، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص، وعثمان بن عوف، وطلحة بن عبيد الله، والزبير بن العوام، ثم في الآية مباحث:
البحث الأول: التشبيه محمول على المعنى والمراد كونوا كما كان الحواريون.
الثاني: ما معنى قوله: {مَنْ أَنصَارِي إِلَى الله}؟ نقول: يجب أن يكون معناه مطابقاً لجواب الحواريين والذي يطابقه أن يكون المعنى: من عسكري متوجهاً إلى نصرة الله، وإضافة {أَنصَارِي} خلاف إضافة {أَنْصَارُ الله} لما أن المعنى في الأول: الذين ينصرون الله، وفي الثاني: الذين يختصون بي ويكونون معي في نصرة الله.
الثالث: أصحاب عيسى قالوا: {نَحْنُ أَنْصَارُ الله} وأصحاب محمد لم يقولوا هكذا، نقول: خطاب عيسى عليه السلام بطريق السؤال فالجواب لازم، وخطاب محمد صلى الله عليه وسلم بطريق الإلزام، فالجواب غير لازم، بل اللازم هو امتثال هذا الأمر، وهو قوله تعالى: {كُونُواْ أَنصَارَ الله}.
ثم قال تعالى: {فآمنت طائفة من بني إسرائيل وكفرت طائفة فأيدنا الذين آمنوا على عدوهم فأصبحوا ظاهرين}.
قال ابن عباس يعني الذين آمنوا في زمن عيسى عليه السلام، والذين كفروا كذلك، وذلك لأن عيسى عليه السلام لما رفع إلى السماء تفرقوا ثلاث فرق، فرقة قالوا: كان الله فارتفع، وفرقة قالوا: كان ابن الله فرفعه إليه، وفرقة قالوا: كان عبد الله ورسوله فرفعه إليه، وهم المسلمون، واتبع كل فرقة منهم طائفة من الناس، واجتمعت الطائفتان الكافرتان على الطائفة المسلمة فقتلوهم وطردوهم في الأرض، فكانت الحالة هذه حتى بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم، فظهرت المؤمنة على الكافرة فذلك قوله تعالى: {فأيدنا الذين آمنوا على عدوهم}، وقال مجاهد: {فَأَصْبَحُواْ ظاهرين} يعني من اتبع عيسى، وهو قول المقاتلين، وعلى هذا القول معنى الآية: أن من آمن بعيسى ظهروا على من كفروا به فأصبحوا غالبين على أهل الأديان، وقال إبراهيم: أصبحت حجة من آمن بعيسى ظاهرة بتصديق محمد صلى الله عليه وسلم وأن عيسى كلمة الله وروحه، قال الكلبي: ظاهرين بالحجة، والظهور بالحجة هو قول زيد بن علي رضي الله عنه، والله أعلم بالصواب والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين.

1 | 2 | 3